فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} [الفتح: 25] عند القائلين بأن ضمير {تَزَيَّلُواْ} للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم، فإن مدحهم الساق بما يدل على الاستمرار التجدي كقوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} ووصفهم بمايدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه: {والذين مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكفار} يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين، ويزيد زعمهم هذا سقوطًا عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السموات والأرض، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم، وإذا قلنا: إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به {الذين مَعَهُ} لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعالى وجهه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكيف يكون ذاك ارتدادًا والله عز وجل حين رضي عنهم علم أنهم يفعلونه، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقًا لأجلها خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما نفي، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلًا كالارتداد والعياذ بالله تعالى، وبالجملة جعل {مِنْ} للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة.
وفي التحفة الإثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نورًا على نور، ويا سبحان الله أين جعل {مِنْ} للتبعيض من دعوى الارتداد، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، وتأخير {مِنْهُمْ} هنا عن {عَمِلُواْ الصالحات} وتقديم {مّنكُمْ} عليه في آية النور التي ذكرناها آنفًا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم، وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفًا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق، وقال ابن جرير: (منهم) يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده.
هذا وفي (المواهب) أن الإمام مالكًا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء انتهى.
وفي (البحر) ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم، وفي كلام عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إليه أيضًا، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} قالت: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عكرمة أنه قال: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} بأبي بكر {فَازَرَهُ} بعمر {فاستغلظ} بعثمان {فاستوى على سُوقِهِ} بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأخرج ابن مردويه والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّاء عَلَى الكفار} عمر {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} عثمان {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} على كرم الله تعالى وجهه {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ الله وَرِضْوَانًا} طلحة والزبير {سيماهم في وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح {وَمَثَلُهُمْ في الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ} بأبي بكر {فاستغلظ} بعمر {فاستوى على سُوقِهِ} بعثمان {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} بعلي كرم الله تعالى وجهه {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضًا في قوله تعالى: {كَزَرْعٍ قال أَصْلِ الزرع عَبْدُ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} محمد صلى الله عليه وسلم {فَازَرَهُ} بأبي بكر {فاستغلظ} بعمر {فاستوى على سُوقِهِ} بعثمان {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} بعلي رضي الله تعالى عنه، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من شطأه أو في من حظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضًا، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل، فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ومن باب الاشارة في بعض الآيات: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1] يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بادخال الأعيان الثابتة ظاهره بنور الوجود فيها أي اظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام {لَكَ} للتعليل، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يروونه من قوله سبحانه: {لولاك لولاك ما خلقت إلا فلان} وقيل: يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلى الله عليه وسلم {أمثالكم إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإثبات جميع حسنات العالم في صحيفتك إذ كنت العلة في إظهاره {وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] بدعوة الخلق على وجه الجمع والفرق {وَيَنصُرَكَ الله} على النفوس الأمارة ممن تدعوهم إلى الحق {نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] قلما يشبهه نصر، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعًا، وكان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته على الصلاة والسلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأزواجهم، والمراد ليجمع لك هذه الأمور فلا تغفل {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين} فسروها بشيء يجمع نورًا وقوة وروحًا بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش، وقالوا: لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولى.
{لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} [الفتح: 4] فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني {إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا} على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق، ومن هنا أحاط صلى الله عليه وسلم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة والسلام شاهد خلق جميعهًا، ومن هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام: «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» {وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] إذ كنت أعلم الخلق بصفات الجمال والجلال {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلى الله عليه وسلم وبقائه بالله عز وجل، أيد ذلك بقوله سبحانه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] {سَيَقول لَكَ المخلفون} المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الامارة {مّنَ الاعراب} من سكان بوادي الطبيعة {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} العوائق والعلائق {فاستغفر لَنَا} اطلب من الله عز وجل ستر ذلك عنا ليتأتى لنا السير {يَقولونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها:
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ** وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئًا {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11] فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ} بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والانس إلى ما كانوا عليه من ادراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} بالله تعالى وشؤنه عز وجل {وَكُنتُمْ} في نفس الأمر {قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الاستعداد {سَيَقول المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} دعونا نسلك مسلككم لتنال منالكم {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قال الله} حكم وقضى {مِن قَبْلُ} إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة {فَسَيَقولونَ} منكرين لذلك {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} ولهذا تمنعوننا عن الاتباع.
{بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [الفتح: 15] ولذلك نسبوا الحسن وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية {قُلْ لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعراب سَتُدْعَوْنَ} ولا تتركون سدى {إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} وهم النفس وقواها {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم {فَإِن تُطِيعُواْ} الداعي {يُؤْتِكُمُ الله} تعالى: {أَجْرًا حَسَنًا} من أنواع المعارف والتجليات {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16] وهو عذاب الحرمان والحجاب {لَّيْسَ عَلَى الاعمى} وهو من لم ير في الدار غيره ديارًا (حرج) في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك {وَلاَ عَلَى الاعرج} وهو من فقد شيخًا كاملًا سالمًا عن عيب في كيفية التسليك والإيصال {حَرَجٌ} في ترك السلوك أيضًا، وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السوك على يد ناقص {وَلاَ عَلَى المريض} بمرض العشق والهيام {حَرَجٌ} [الفتح: 17] في ذاك أيضًا لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الانفراد عن الأهل والمال، ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكفار} أعداء الله عز وجل في مقام الفرق {رُحَمَاء فِيمَا بَيْنَهُمْ} لقوة مناسبة بعضهم بعضًا فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال {سيماهم في وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} له عز وجل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السيما خلع الأنوار الإلهية، قال عامر بن عبد قيس: كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} سترًا لصفاتهم بصفاته عز وجل {وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] وهو أن يتجلى سبحانه لهم بأعظم تجلياته وإلا فكل شيء دونه جل جلاله ليس بعظيم، وسبحانه من إله رحيم وملك كريم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله}.
بهذه الآية الكريمة تختم سورة (الفتح).
وبهذا الفتح الذي وعد اللّه المؤمنين تقوم دولة المسلمين، ويأخذ مجتمعهم مكانه في الحياة، ويرى الناس وجه الإسلام في هذا المجتمع.
والصفة التي تغلب على هذا المجتمع، ويعرف بها في الناس، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار، الذين يحادّون اللّه ورسوله، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على دين اللّه، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين.
هذا حالهم مع أعداء اللّه.. أما هم فيما بينهم فهم رحماء، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة، تجمعهم أخوة بارّة في اللّه، وفى دين اللّه..
هذا ما تنطوى عليه صدورهم، وتفيض به مشاعرهم، نحو أعداء اللّه، وأوليائه..
أما ما يراه الناس من ظاهر أمرهم، فهو اجتماعهم في الصلاة، وتولية وجوههم جميعا للّه.. يركعون معا، ويسجدون معا.. يريدون بذلك مرضاة اللّه، ويبتغون فضله وإحسانه..
فإذا لم يرهم الرائي في مقام الصلاة، رأى منهم أثر هذه الصلاة، وما يترك السجود على جباههم من آثار، هي سمة المسلم المصلّى، وهى الشارة التي تشير إليه، وإلى الدين الذي يدين به..
وهذا يعنى أن الصلاة هي شعار المسلم، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام، ومن هنا كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان باللّه.. وفى الحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» وفى الحديث أيضا: «العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر» يريد تركها عامدا منكرا.
وقوله تعالى: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} أي هذه الصفة هي صفة المسلمين التي وصفهم اللّه بها في التوراة..
والإشارة: إما أن تكون إلى جميع هذه الأوصاف، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
الشطء: أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض، وشاطىء الشيء، حافته.. أي ومثل المؤمنين الذين مثّلهم اللّه سبحانه وتعالى به، في الإنجيل، هو الزرع، يبدأ بذرة هامدة في الثرى، فإذا أصابها الماء، اهتز كيانها، ودبّ دبيب الحياة فيها، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها- أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور، وأن تلتمس لها طريقا إليه، من بين هذا الظلام المطبق عليها، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة، وإذ شىء أخضر صغير، لا يكاد يرى، يطل على الحياة في استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله، ثم ثالث ورابع..
وهذا هو الشط، وجمعه شطآن..
وشيئا فشيئا تنمو هذه الشطآن، وتعلو، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه، وأوراق تكسو هذا الساق، وفروع وأغصان، وأزهار وثمار، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة!.
وهكذا المسلمون، بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع فغرسها في الأرض، وساق إليها الماء، وتعهدها بالرعاية والري، طالت، وانداحت، وأزهرت، وأثمرت، وملأت وجه الأرض المغبرّة، حسنا، وجمالا، وخيرا..
وشبه المسلمون بالزرع لأنهم كثير، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل..
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}- هو إشارة إلى هذا الزرع الطيب، الذي يملأ العين سرورا ورضا، وهو في الوقت نفسه يملأ قلوب الكافرين حسرة وحسدا..
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من اللّه، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا المؤمنون على إطلاقهم.. وهذا هو السر في قوله تعالى: {مِنْهُمْ} الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك..
{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله}.
لما بيّن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه.